لم تقتصر الكتابات النقدية، التي تناولت الفن التشكيلي الإماراتي، على إبراز الجوانب الإبداعية، بل وثقت بشكل غير مباشر الحركة التشكيلية الإماراتية بمجملها، وإبراز خصوصيتها من خلال تناول أعمال الفنانين، الذين شكلوا المشهد التشكيلي المحلي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
واستطاعت «البروشورات» والكتيبات، على سبيل المثال، التي صدرت بالتزامن مع المعارض، أن تسهم بالتعريف باتجاهات الفن المختلفة، وهو ما يتيح للنقاد رصد تطور الحركة التشكيلية وتطورها، من البدايات ولغاية الآن، والتعريف بالتالي برواد التشكيل الإماراتي، كما أتاحت للجمهور كذلك التعرف على تجارب الفنانين، وتقييم المشهد التشكيلي في الدولة.
ومن جانب آخر، كان لإنتاج وعرض عدد من الأفلام الوثائقية التي تتناول حياة وتجربة فنانين إماراتيين، مساهمتها الخاصة في مجال التعريف بالفنانين عن قرب، ما يقلل من حالات الاعتماد على التكهنات والاحتمالات والتقييمات، التي يتبناها النقاد في بعض الأحيان.
في مسعى لرصد جهود توثيق الحركة التشكيلية الإماراتية وتجاوز مأزق إثبات التاريخ الفني، التقت عدداً ممن حملوا على عاتقهم توثيق هذه تجربة فناني الدولة الإبداعية، والاعتناء بإبراز ثرائها وتنوعها، من خلال منجزات نقدية وتوثيقية.
الشاعرة والمخرجة، نجوم الغانم، التي رصدت سيرة ومسيرة الفنان الراحل حسن شريف، في فيلم «آلات حادة من صنع الفن»، والتقطت بعدستها السينمائية الحياة الشخصية والفنية الإبداعية للتشكيلية نجاة مكي من خلال فيلم «أحمر أزرق أصفر»، إذ قالت: «الفنانة د.نجاة مكي والفنان الراحل حسن شريف يُعتبران، كلاهما، من الرواد في مجاليهما، وهما ينتميان إلى عالم الفن التشكيلي، ولكن من جانبين أو منظورين مختلفين». وأوضحت: «عندما عملت معهما سينمائياً، لم يكن الهدف توثيق تجربتهما بقدر ما كنت أحاول الاقتراب منهما شخصيتين استثنائيتين». وأضافت: «أردت الذهاب مع الكاميرا إلى عوالمهما الخاصة والمجهولة لنا كجمهور».
وواصلت: «مع حسن شريف استطعنا قراءة أفكاره والاستماع إليه مباشرة، بينما هو يتحدث عن فلسفته ومصادر إلهامه، إلى جانب ذكرياته عن البدايات والصعوبات التي واجهها».
وأضافت الغانم: «من جانبها، فتحت لنا د.نجاة عالمها كونها امرأة في مجتمع كان محافظاً ومتحفظاً تجاه الفن التشكيلي، خاصة في نظرته للنحت والشخوص، الذي كان مجال اختيارها تخصصاً أكاديمياً. وكانت هي أيضاً كريمة في استضافتنا في الاستديو الخاص بها وفي بيتها، وفي البوح بتفاصيل حياتها الشخصية ذات العلاقة».
وأكملت: «هذه الأفلام تسلط الضوء على الجوانب الإنسانية والشخصية والفكرية لهاتين الشخصيتين، وأتاحت لنا فرصة رؤيتهما بشكل مباشر وملموس، بينما هما يسردان قصصهما، حيث يمكننا أن نلمس مشاعرهما ونقف عند تعابيرهما».
وأضافت: «إذا كانت هذه الأفلام ستساهم في نشر الوعي في المجتمع، أو ستساهم في تعليم الأجيال، فهذا شيء إيجابي إضافي».
كما أكدت الغانم أنها لم تهدف من الأفلام التي قدمتها، القيام بعمل أفلام وثائقية تعليمية أو ثقافية أو تراثية، وفسرت ذلك قائلة: «أنا أعمل بشكل أنثروبولوجي مع هذه الشخصيات، ومعاً نبدأ رحلة بحث طويلة، وأحياناً تكون شائكة لأنها تذهب إلى الشخصي والخفي والمؤلم ربما». وأضافت: «هذه المعالجات تتطلب العيش مع الشخصيات ومعرفتها عن قرب، والوصول معها إلى الذاتي جداً، وعدم الاكتفاء بالموضوعي والخارجي الذي يشبه التناول التقريري».
من جهته، قال الناقد د.عمر عبدالعزيز: «تتبعت الحركة التشكيلية في الإمارات من تسعينيات القرن المنصرم، وصدرت لي عدة مؤلفات. وفيها كنت ألاحظ الانبعاثات الأولى المرتبطة بالجانب المدرسي بالفنون الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، والتأثيرية».
وتابع: «رصدت حضور كوكبة من الفنانين، أذكر منهم الدكتورة نجاة مكي، وعبدالرحيم سالم، وحسن شريف وآخرين».
وأوضح: «الحقيقة أن منابع وروافد المدرسة التشكيلية الإماراتية متعددة، فبالإضافة إلى الأكاديمي المرتبط بالفنون العربية والعالمية، هناك مساهمات في الحروفية والزخرفة والنمنمة، وكل هذه العناصر التي سجلت وتسجل حضوراً في العديد من التعبيرات التشكيلية».
وتحدث د.عبدالعزيز عن بعض كتبه التي صدرت وتناولت التشكيل الإماراتي. ومنها كما قال كتاب «مقاربات في التشكيل»، الذي يتحدث حصراً عن تجربة التشكيل المحلي في العام 1996 تقريباً، أما إصدار «كتابات أولى في الجمال» فيعتبره إطلالة على الأبعاد الجمالية في الفنون العربية، ومنها الفنون في الإمارات. واستذكر د. عبدالعزيز، كذلك، أنه تناول إنجازات رسام الكاريكاتير الراحل ناجي العلي في الرسوم، التي عرضت له في دولة الإمارات.
ورأى د.عبدالعزيز أن أهمية الكتابات في مجال التشكيل تكمن في حقيقة قدرتها على أن تكون جزءاً من روافد الثقافة العامة. وقال: «إن لها بعداً انطباعياً يتصل بأحكام القيمة النقدية والفكرية، والمنهجية بالتوثيق البصري والكتابي»، فيما يؤكد مضيفاً: «في كلتا الحالتين هناك الكثير من الأقلام والأسماء العربية والمحلية، التي تناولت النقد الفني، وقدمت مساهمات مذكورة، منها كتاب «الخمسة» للفنان الراحل حسن شريف، ومساهمات د.عبدالكريم السيد وغير ذلك من المبادرات».
في السياق ذاته، تحدث الفنان علي العبدان عن طبيعة كتاباته في مجال النقد التشكيلي، مشيراً في مستهل حديثه إلى أن الفن في معظم تطوراته لم يكن مفهوماً من قِبل معظم الناس.
وأوضح الفنان العبدان: «جاءت الكتابات النقدية لتقدم إلى المهتمين قراءات تهدف إلى معرفة الفن وتذوقه، والإلمام بتطوراته التاريخية، والتعرف إلى القِيَم الجمالية التي تقترحها الأعمال الفنية، مضيفاً: «كما تهدف تلك الكتابات إلى بيان مكامن النقص القَدَري الذي لا بد منه في كل عمل فني».
وتابع: «إلى جانب أن القراءة حول الفن والكتابة عنه تساعد الفنان نفسه على فهم ذاته الفنية، وفهم أعماله، ومن هنا كانت بدايتي مع الكتابة الفنية».
واستحضر العبدان عدداً من كتاباته النقدية، مستشهداً بها ومبيناً الهدف منها، فقال: «جاء أول مقال نقديٍّ لي بعنوان «من مَشاهد محمد كاظم الأخيرة»، وكان هذا المقال نتيجة حواراتي العديدة مع الفنان الراحل حسن شريف حول مفهوم الفن وطبيعته ووظيفته، أي، تلك الحوارات التي شهدها المرسم الحر في دبي، أواخر الثمانينيات.
وكان الفنان محمد كاظم قد رسم مجموعة لوحات تمثل المرسمَ الحر، وكنتُ شاهداً على إنتاجها بحكم وجودنا شبه الدائم في المرسم؛ فوجدتُ في تلك اللوحات ما يستحق الحديث عنه، فكتبت ذلك المقال، ونشرته عام 1991».
وأوضح العبدان: منذ ذلك التاريخ نشرتُ الكثيرَ من المقالات في الصحف والمجلات المتخصصة، منها مجلة «التشكيل» الصادرة عن جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ومن المقالات التي نشرتها فيها مقالات بعنوان «مسيرة فن الكاريكاتير في الإمارات»، و«فن النحت في الإمارات.. تاريخ موجز»، و«جمالية التقابل والتكرار في منحوتات الفنان الكويتي سامي محمد».
وأضاف: «وقد صدر لي عن الجمعية، كذلك، كُتيّب تحدثت فيه ببعض التحليل عن أعمال النحات الإماراتي الراحل محمد بولحيه، وتوّجت هذه الكتابات بكتابي «القرن الجديد.. اتجاهات الفن التشكيلي في الإمارات بعد العام 2000»، وهو كتاب نقديّ عن تجارب بعض الفنانين الإماراتيين المعروفين. وقد فاز هذا الكتاب بجائزة أفضل كتاب ذي محتوى إماراتي في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2010».
أشارت الفنانة د.نجاة مكي أشارت إلى أن فيلم «أحمر أزرق أصفر» تناول تجربتها الفنية كونها جزءاً من حياتها ككل، مؤكدة أن التوثيق في الفن له عدة قنوات. وقالت: «أول هذه مهمة للفنان: أن يهتم بأعماله، إذ يجب عليّ كوني فنانة أن أهتم بتجربتي منذ بداياتي ولغاية الآن، وأن أوثق للمعارض والتجارب والمراحل الفنية وورش العمل والملتقيات والندوات والمؤتمرات، التي أنجزتها أو مررت بها أو شاركت فيها».
وأضافت: «هناك جهات تهتم بالإبداع، ولكن بشكل مختلف عن الفن، وهو ما يوجد نوعاً من التوازن، فعندما يكون هناك مشاركة مع الشعراء في عمل مكتمل، تتشكل أهمية إضافية للفنان». وتابعت: «لا بد أن يرتبط الفنان بتعاون مع جهات مختلفة مثل وزارة الثقافة والمتاحف والمدارس ومؤسسات كثيرة مجتمعية كثيرة، لأجل التعبير عن قضية ما.
ومن جهة أخرى لا بد أن يكون للمؤسسات التي تُعنى بالفنون والمتاحف وهيئات الثقافة في الدول معلومات عن الفنانين، وعلى الفنان أن يساعد هذه الجهات بتقديم ما يثبت تاريخه الفني، إذ لا يكفي أن يقول إنه قدم 10 معارض، ولكن عليه أن يقدم ما يثبت ذلك». وأشارت مكي إلى أهمية تعاون الفنان مع المجتمع، مبينة: «إن المجتمع جزء من قضية الفنان، يستقي ويتحاور معه من خلال المعارض، بهدف كسب الجمهور».
وقالت مكي: «نحن محظوظون أن حكومتنا تشجع الإبداع وفتحت قنوات للجوائز، وهنا يأتي دور الفنان عند التواصل بالمعارض والاشتراك بالبحث عن ما هو جديد على الساحة التشكيلية».
وقالت: لقد ساهم «آرت دبي» و«آرت أبوظبي» و«بينالي الشارقة»، وغيرها من فعاليات فنية، بإعطاء الفنان الإماراتي فرصة الاقتباس من فنون الأخرى». وأوضحت: «بدأنا نخلط الأسلوب الأجنبي بالعربي للوصول إلى طابع مميز، وذلك نتيجة احتكاكنا بالآخر». ورأت أن توثيق التجربة الفنية يسهم في نمو الفن، ويُمكّن المؤسسات من تبني ثقافات في نفس المجال. وقالت: «لقد أصبحنا عالماً غير محدود من الثقافة. في يد كل فنان ثقافة أو متحفاً متنقلاً من خلال التقنيات المتمثلة بالهواتف الذكية، التي تمكن من الاطلاع على كل الثقافات والمنتجات الإبداعية بسهولة».
تنشر بعض الجهات المحلية إصدارات عن الفن التشكيلي من بينها كتاب «الفن في الإمارات»، الذي أصدرته مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، وتميز ببحثه الإحصائي والتوثيقي الذي يستكشف رؤية عدد من أبرز رواد الفنون في الدولة، من خلال مقابلات متعمقة، وصور لأعمال فنية، بالإضافة إلى تقديمه نظرة شاملة على المسارات المهنية وأنشطة مجموعة واسعة ومتنوعة من قاعات عرض الفنون وكذلك تعريفاً بأصحاب المعارض، والمؤسسات الثقافية والفنية، والجامعات ومراكز تعليم الفنون.
وقدم الكتاب نظرة موسعة للساحة الفنية في الدولة بعناصرها المختلفة، عبر بحث إحصائي توثيقي لم يتوقف على ما يبدو على السطح، لينطلق إلى ما وراء الكواليس، لاستكشاف دافع وشغف ورؤية عدد من أبرز رواد الفنون في الدولة، من بينهم فاطمة لوتاه، خولة درويش، خالد الشعفار، محمد المزروعي، محمد الاستاد، عبدالرحيم سالم، ناصر عبد الله وغيرهم. ويظهر الكتاب الشخصيات الداعمة للفنون ومراكز تعليمية ومؤسسات ثقافية وفنية وصالات عرض الفنون.