«التصوُّر الإسلامي للطبيعة- دور التأسيس» كتاب جديد، في فرع الفلسفة الإسلامية، صدر، مؤخَّراً، ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدرها الهيئة العامّة لقصور الثقافة، في القاهرة، لمؤلِّفه د. مصطفى لبيب، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة.
يسعى مؤلِّف الكتاب إلى الكشف عن معالم النظرة الإسلامية إلى الطبيعة، كما تجلّت في كتابات عدد من روّاد الفكر الإسلامي الأوائل، مثل علي بن أبي طالب، وجابر بن حيان، وأبي بكر الرازي، وقد عُني الكاتب بتتبع تلك النظرة، في مراحلها المبكرة، قبل أن تتأثَّر هذه النظرة بروافد أجنبية وافدة، في عصر الترجمة.
ويستهدف الكاتب، كذلك، بيان تفرُّد الرؤية الإسلامية للوجود وتمايزها الأصيل عن تلك الرؤى الأخرى التي تشكَّلت عبر مراحل الفكر الإنساني، سواء ما ارتبط منها بدين ما، وما ظهر مستقلّاً عن أيّ دين.
قسم د. مصطفى لبيب كتابه إلى بابين كبيرين، يضمّ كلّ منهما ثلاثة فصول، إضافةً إلى توطئة، وتقديم، ومقدّمة منهجية، وخاتمة.
في مقدّمته للكتاب يؤكّد الكاتب أن تناوله للفكر الإسلامي، لا يفصل بين كونه متّصلاً بالدين، وكونه متّصلاً بالعقل أيضاً، حيث يرى أن من الضروري، في دراسة هذا الفكر، «أن نولي المعطيات الدينية الأساسية: القرآن، وصحيح الحديث النبوي، وما قدّمه الأئمّة الأعلام من تفسير لهما» أهمّية خاصّة، بما هي مصادر للإلهام العقلي، كما يرى الكاتب أن افتراض قدرة العقل الخالص على التحرُّر من ملابسات الواقع العميقة يُعَدّ خطأً منهجياً، مع تسليمه- في الوقت ذاته- بأن أساس الحكم على قيمة أيّ فكر هو في قدرته على الوفاء بحقوق العقل الخالص؛ الأمر الذي لا يتحقّق له، بالفعل، لمجرَّد انتسابه إلى الدين، مع افتقاد المفكّر روح الدقّة وشمول الرؤية.
في مقدّمته المنهجية التي تسبق البحث، يحدِّد الكاتب جملة من المبادئ العامّة التي يعدّها القاعدة الموضوعية لفهم مشكلات الفلسفة الإسلامية، وتقديرها، لعل من أهمّ هذه المبادئ تأكيده على أن «الفلاسفة المسلمين كانوا على وعي بأن الفلسفة، في جوهرها، فاعلية عقلية ومنهج في التساؤل يستهدف فضّ حجب الوجود وكشف أستاره، وأن هذه الفلسفة، بما هي كذلك، لا تستنفدها رؤية عقلية بعينها أو مجموعة من الرؤى، وأن أيّ تفنيد لصورة ما من صور التفلسف لا ينبغي أن يتمّ إلا بمنهج الفلسفة ولحسابها». كذلك، يرفض د.مصطفى لبيب تصوُّرات من يتعاملون مع تراثنا العقلي بأسره، في ضوء التسليم بما جاء في النصّ المأثور «خير القرون»، والذي يجعلهم يوسِّعون مجاله ليشمل الدين والدنيا، موضِّحاً أن ذلك يتناقض مع منطق العقيدة التي تعلي من شأن المنهج التاريخي، وتسلِّم بالتطوُّر؛ بمعنى التقدُّم الذي يتأسَّس على الرصيد المختزن عبر الزمان، منوِّهاً إلى أنه، برغم الدعوات الجامدة المحافظة، كان هناك، دائماً، الوعي بمفهوم التقدُّم في الزمان، حتى في عصر التراجع، ويستشهد في ذلك بما يثبته جلال الدين السيوطي في العصر المملوكي، إذ يقول في مقدِّمة كتابه «الإتقان في علوم القرآن»: «إن العلوم، وإن كثر عددها، وانتشر في الخافقين عددها، فغايتها بحر لا يُدرك، ونهايتها طود شامخ لا يُستطاع إلى ذروته أن يُسلك، وهذا يفتح، لعالم بعد آخر، من الأبواب ما لم يتطرَّق إليه المتقدِّمون»، كذلك ينقل عن السيوطي، عن أبي السعادات ابن الأثير، قوله في مقدّمة كتابه «النهاية»: «كلّ مبتدئ لشيء لم يُسبق إليه ومبتدع أمراً لم يُتقدَّم فيه عليه، فإنه يكون قليلاً ثم يكثر، وصغيراً ثم يكبر».
يناقش الكاتب، في الباب الأوّل من كتابه، وعبر فصوله الثلاثة، مصدر التصوُّر الإسلامي للطبيعة، مشيراً إلى أن القرآن هو مصدر الإلهام المتجدِّد للنظر العقلي عند المسلمين، ومصدر بناء تصوُّرهم الفكري للطبيعة، مؤكِّداً على أن موقف المسلمين من التصوُّرات الأجنبية حكمته، أيضاً، بصيرةٌ استنارت بنور القرآن الكريم، وهو لا يرى في ذلك قيداً على العقل الإسلامي، بل إنه يذهب إلى أن روح الثقافة الإسلامية التي تستحقّ هذا الاسم تبتعد عن كلّ نزعة جامدة، مغلقة، تزعم امتلاك الحقيقة؛ حيث يبقى صحيحاً، دوماً، أن الكلمة الأخيرة لا يستطيع أن ينطق بها أحد، وأن رحلة العقل إلى هذا المنتهى الأخير رحلة طويلة وشاقّة ولا نهاية لها.
هكذا، يكشف الكاتب عن رؤية الإسلام التي تناقض الجمود، والدعوة إلى الاكتفاء بالماضي، معتبراً ذلك «مصادم لما تقضي به طبيعة الكون وطبيعة كلّ حَيّ من النموّ والتوليد…. ولو وقف التناسل الفكري لارتطم الإنسان في حياته بكثرة ما تلد الطبيعيات التي هو منها، وعندئذ، يعجز عن تدبير الحياة النامية، ويتحقّق فشله في القيام بمهمّة الخلافة التي اختير لها». كذلك يناقش الكاتب، في هذا الباب، جذور التصوُّر الإسلامي للطبيعة، سواء أكانت الطبيعة المادّية المسخّرة والتي لا تملك عصياناً لقوانين مبدعها، أم كانت الطبيعة الإنسانية المتجاوزة لذاتها والتي لا تلتزم- من حيث المبدأ- بالطاعة، التزاماً ضرورياً، وتتشكّل ماهيّتها في السعي الدائم إلى إدراك كمال وجود لا يكتمل أبداً، وتتجلّى أخصّ خصائصه في اكتشاف الحرّيّة الممكنة له، حتى في العصيان أو في الجهالة حين تتنكّر لفاعليّتها العاقلة، كما يناقش الكاتب، في آخر فصول هذا الباب، قضيّة «المعجزة» وعلاقتها بقدرة الله المطلقة، من ناحية، وثبات السنن الكونية، من ناحية أخرى، ومدى مشروعية التسليم بالمعجزة في النسق الديني والنسق الفلسفي.
خصَّص المؤلِّف الباب الثاني من كتابه لعرض ما سمّاه «معالم في الطريق»، مستعرضاً، في الفصول الثلاثة التي يحتويها هذا الباب، تصوُّرَ الطبيعة عند الإمام علي بن أبي طالب (ت: 20 هـ) في مرحلة بزوغ العقل الفلسفي في الإسلام؛ حيث قدَّم قراءة أوّلية في كتاب الإمام «نهج البلاغة»، كما عرض لتصوُّر الطبيعة عند جابر بن حيّان (ت: 200 هـ)، وهو الفصل الذي أطلق عليه المؤلِّف «جهاد العقل»، وختم المؤلِّف باستعراض تصوُّر الطبيعة عند أبي بكر الرازي (ت: 313 هـ، 925 م) وهو التصوُّر الذي أطلق عليه (فتوّة العقل).
ويصل د. مصطفى لبيب، عبر بحثه الشائق في تصوُّر الفكر الإسلامي للطبيعة، وتقصّيه أبرز ما توصّلت إليه البشرية، خلال تاريخها الطويل، من رؤى غير إسلامية للطبيعة والوجود، إلى عدّة نتائج مهمّة، وقد أجملها في تباين النظرة الإسلامية لكلّ ما عداها من رؤى، مؤكِّداً أن هذه النظرة الإسلامية الرشيدة تأسَّست على استلهام العقل الإنساني لدلالات الوحي السامية، وموالاة الفطرة السليمة التي تنشد البداهة والوضوح؛ حيث تخلّصت النظرة الإسلامية للطبيعة من كلّ دلالة سحرية، يختلط فيها «المقدَّس» والمفارق بالطبيعي والمشهود، كما تخلّصت من كلّ نزعة تشبيهية تختلط فيها العاطفة بالعقل، فلا ترى فاصلاً بين الإنسان والطبيعة، كما تخلّصت من كلّ أثر للاتّجاهات العدمية التي ترى الواقع وهماً، لا حقيقة له.
وقد رأى الكاتب أن محور هذه النظرة الإسلامية عقيدة التنزيه الخالص، ووعي المسلم بأن الله- سبحانه، وتعالى- واحدٌ أحد «ليس كمثله شيء»، وإدراكه، كذلك، بأن الطبيعة، في ثباتها وعظمتها، ليست سوى لحظة من لحظات الخلق الإلهي، وأنها معلّقة على كلمة الله وإبداعه المستمرّ، وعنايته التي لاتفارق الوجود طرفة عين، وأن الكون الطبيعي كلّه، بما فيه، وبمن فيه، أثر من آثار الإرادة الإلهية، ومراتب الوجود ودرجاته رهن بما أودعته فيها المشيئة السامية من أقدار الفاعلية والعقل «لله الأمر من قبل ومن بعد».
«التصوُّر الإسلامي للطبيعة» كتاب مهمّ، ليس، فقط، لاستجلائه تلك الرؤية الفكرية الإسلامية للطبيعة، وتأكيده على تمايزها، وقدرته على إثبات تفوّقها- عقلياً، ومنطقياً- على ماعداها من رؤى وتصوُّرات، إنما-أيضاً- لتأكيده على أن دعوات الجمود والانغلاق على الماضي، والاكتفاء بما قاله السلف، تصادم نصوص الإسلام، وتتناقض مع منطق العقيدة التي تعلي من شأن المنهج التاريخي، وتسلِّم بالتطوُّر؛ بمعنى التقدُّم الذي يتأسَّس على الرصيد المختزن عبر الزمان، وهي المعركة التي ينبغي أن يلتفت إليها العقل المسلم الآن، ذلك العقل المحتجَز في الماضي، والرافض للاجتهاد، والمتّهم، الآن، بالظلامية والجمود، دون قدرة منه على إثبات العكس