قدّم الناقد على الشدوي خلال الحلقة النقدية التي نظمها نادي جدة الأدبي أمس ورقة نقدية بعنوان (بائع المخزي: الطقس الشعبي للعقوبة) قال تناقش الورقة كيف يمكن أن تكون العدالة أقل أهمية من الفضيلة، وأن غرض العدالة الأساسي يتجلى في منع الناس من أن يخالفوا الشريعة. والوسيلة التي تطبق لتحقيق هذا الغرض هي التهديد بعقوبة قاسية. من هذا المنظور فالعدالة لا تهتم بالمساواة بين البشر كما نعرفها في مفهوم العدالة الحديث ؛ إنما تظهر أن العدالة هي حماية الناس من أن يرتكبوا المحرمات. إضافة إلى هذا تتوقف الورقة عند رؤية للنظام الاجتماعي، وهي رؤية يمكن أن نعتبرها شكلا من أشكال العدالة البدائية؛ بعدم تركيزها على حق المساواة. ويمكننا أن نتفهم هذا في ضوء أن الحادثة حدثت ضمن نظام اجتماعي لا يعرف المساواة. وكما هو معروف فإن بيئة أي مجتمع “توفر الأساس للأحكام التي يتخذها الناس عن العدالة؛ لأن تلك البيئة الاجتماعية تعتبر في نظرهم مقبولة واعتيادية، ولا يكون السبب في ذلك بالضرورة أنها بيئة تسودها العدالة “.
وقال الشدوي إلى أن العدالة يمكن أن تملك تصورا هرميا. يظهر هذا التصور أن شدة العقاب تكون على نحو تنازلي حسب مراتب الناس الاجتماعية. في ضوء ما نعرف الآن عن العدالة الحديثة ترى الورقة أن العدالة التقليدية لم تكن تحرص على علاقات اجتماعية تستند إلى الاحترام المتبادل بين الناس، ولا على التعامل بين أناس أحرار ومتساوين.
واختتم الشدوي الورقة إلى أن لا أحد أن يدرك أكثر من كاتبها محدودية التحليل قياسا إلى العدالة التي كانت ومازالت موضوعا فلسفيا شغلت الفلاسفة والناس. لكن الورقة ستكون مفيدة فيما لو نجحت في تنبيه القارئ إلى ” أن فكرة العدالة ما هي إلا أداة اخترعها البشر، وقاموا بتحسينها وتشذيبها، ولكن هذه الأداة مثلها مثل غيرها من الأدوات، لا تتسم بمرونة لا نهائية، ولا يمكن إعادة تشكيلها بما يتماشى مع رغبات الإنسان، على الأقل ليس إذا أردنا لها أن تؤدي نوع الوظيفة التي وجدت أصلا من أجلها “.
المخزيات الثقافية
وعلق الدكتور محمد ربيع الغامدي كان الدخان يسمى عند أهل نجد “المخزي”، وأظن التسمية ما زالت كذلك إلى اليوم. ولنلاحظ أن المخزي هو اسم للدخان وليس وصفا له، وهناك فرق واضح. بل إن تسميته “الدخان” أو “التتن” الشائعة اليوم هي نفسها تسمية دالة دلالة سلبية أيضًا؛ بدليل أنها لا ترد في السياق الإيجابي كما ترد “سجائر التبغ” المستخدمة في الدعاية له مثلا.
وقال ربيع نحن إذن أمام مخزيات ثقافية متفاوتة تستحق أقدارا متفاوتة من العقاب، ومخزيات أخرى وقتية أو متحولة تتغير بتغير الزمان والمكان. فتقدير إلى أي مدى يكون الشيء من المخزيات ومدى استحقاقه العقاب هو في النهاية أمر نسبي، وإن ظن البعض أنه صلب وقطعي وثابت.
وقال ربيع تحرِّض ورقة الشدوي على عدة أمور، سأكتفي بأمر واحد منها فقط لئلا أطيل، هو العودة إلى تحليلات ميشيل فوكو في كتاب “المراقبة والمعاقبة” الذي يمثل أحد أعماله الحفرية (الأركيولوجية) في المؤسسات، ومنها في هذا الكتاب كما هو واضح وعلى نحو مخصوص “المؤسسة العقابية”. ويجعلنا الالتفات إلى الحكاية التي رواها موسى النقيدان عن عبده الخباز، وتحليل ما حملته من صور قاسية، نستعيد اللوحات المتتابعة في كتاب المراقبة والمعاقبة التي ترسم تعذيب البائس “داميان” منذ نزع ملابسه وحمله على عربة العرض وإيقاع أساليب التعذيب الرهيبة عليه إلى لحظة إعدامه ثم حرقه.
وابان بأن تحليل الشدوي لمشاعر استساغة التعذيب القاسي، وتقبل فكرة تحول المعاقبة إلى الانتقام والثأر من الضحية بهذه الصورة، يذكرنا بمقاطع الاقتباس في المعاقبة والمراقبة لفكرة “التلذذ القاسي بالمعاقبة”، ولفكرة أن “الشعب بعد التعود على رؤية سيلان الدم يتعلم بسرعة أنه لا يستطيع الانتقام إلا بالدم”.
وقال الكاتب صالح فيضي يحمد للورقة أنها أثارت ولملمت أطراف مفهوم متسع ومتشعب ويؤخذ عليها إهمال الحالة الثقافية في تلك الفترة وانتشار الأمية وغياب القوانين.
وقال فيضي أحب أن أشير إلى نقطة أخرى اثارتها هذه الورقة الجميلة وهي مايعرف بالعقل الجمعي أو الأثر الاجتماعي وفيها تغييب الرؤية الفردية تحت ضغط سطوة الجماعة مما يدفع بالأفراد إلى تبني رأي محدد بصرف النظر عن صوابه من خطائه ، وهو مابرز في طريقة النظر لبائع المخزي ومتعاطية بالرغم من اقتصار الضرر على الفرد ولم يتعد إلى الجماعة إلا أن هذا لم يشفع في اعتباره شأن شخصي ويمكن قبوله.
وشهدت الحلقة التي أدارها الناقد الدكتور محمد ربيع الغامدي مداخلات عدة من الحضور وكان من أبرز الحضور الناقد الدكتور سعيد السريحي والدكتور عبدالله الخطيب. والدكتور يوسف العارف والكاتب صالح فيضي وصادق الشعلان وعبدالله ساعد والدكتورة لميا باعشن والدكتورة فاطمة االياس والدكتورة اميرة كشغري.