المؤرخون صرفو أنظارهم عن اعتبار المتخيّلات الشعرية والسردية مصدرًا من مصادر التاريخ، فالمرجع القابع خلف الصيغ الأدبية -حسب اعتقادهم- يفتقر إلى الحقيقة الموضوعية، أو أن الخطاب الأدبي عمل على تشويهه، والتلاعب به، بما يوافق شروطه المجازية، فمن المتعذّر اعتماد الخطاب الأدبي دليلا على وجود الحقائق، بل هي إيماءات تشير إليه ولكنها لا تقرّره، ناهيكم أن يصبح الشاعر الأعمى دليلا على دقة ذلك المرجع، ومع ذلك فقد استعان “إنجلز” رفيق “ماركس” بأشعار هوميروس لشرح تفسيره لحقب التطور البشري، ففي تقسيمه للملكية وأصل العائلة إلى المراحل الثلاث التي مر بها عصر الوحشية، وهي: المرحلة الدنيا، والمتوسطة، والعليا، لاذ بهوميروس لوصف المرحلة الأخيرة الخاصة بالانتقال من عصر الوحشية إلى عصر المدنيّة، فهو خير مَنْ قدم تمثيلا لهذه الحقبة من حقب التاريخ القديم، ففي أشعاره كما قال إنجلز “نجد المرحلة العليا للبربرية في قمة ازدهارها، فقد جاء في هذه الأشعار وصف الآلات الحديدية التي تحسّن صنعها كالعجلات، وكذلك صنع الزيت، والصناعات الحديدية التي تطورت إلى فنون، والعربات والعجلات الحربية وبناء السفن وبدء الفن الهندسي وبناء المدن ذات الأسوار والأبراج الدفاعية، وتعتبر كل هذه الأشياء، مضافا إليها قصص هوميروس التاريخية وعلم الخرافات، الميراث الرئيسي الذي حمله الإغريق في انتقالهم من البربرية إلى المدنية”. ولم يشذّ “إنجلز” عن عدد وفير من المؤرخين، والمفكرين، لأن قدامى الإغريق أنفسهم كانوا يلوذون بالمرويات الشعرية من أجل معرفة تاريخهم، وبخاصة شعر هوميروس.
لم يتردّد فيلسوف “المادية التاريخية” التي تهدف إلى بسط منطق الجدل المادي على الحقب التاريخية التي مرت بها المجتمعات الإنسانية، من أجل تفسيرها، امتثالا للفرضية القائلة بأن البنية الفوقية، وتمثلها الثقافة بما فيها من آداب وقوانين وأديان وأخلاق، تعكس البنية التحية، وهي مجموع الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية، من القول بأن ملاحم هوميروس كانت السجل الذي انعكست فيه أحوال المجتمع اليوناني القديم “في ملاحم هوميروس نجد القبائل الإغريقية عموما قد توحّدت على هيئة شعوب صغيرة تحتفظ فيها والفروع والأخوّات والقبائل باستقلالها. وكانت هذه الشعوب تعيش في مدن محاطة بالأسوار”. انتهى التفسير الماركسي للتاريخ إلى اعتماد مرويات شاعر ضرير لتكون مصدرا من مصادر المادية التاريخية، فالإبصار المادي للتاريخ يقيم تفسيره على بصيرة شاعر كفيف. لم يرَ الشاعر الأعمى المجتمع الذي عاش فيه بل تخيل مجتمعا موازيا قريب الشبه به، أو هو بعينه عند أنجلز، فلا غرابة أن تكون تخيلات الأعمى دليلا لتفسير المبصرين.
لم ينفرد إنجلز بالقول إن مرويات هوميروس كانت السجل التي دوّنت فيه أفعال الأسلاف العظام، إنما جاراه في ذلك مؤرخ الحضارات “توينبي” في النظر إلى أشعاره على أنها المدوّنة التي قدّمت أفضل تمثيل للعصر البطولي القديم، فقد رسم هوميروس الأمجاد الكبيرة التي قام بها أبطال تواروا عن مسرح التاريخ، فسعى بالشعر إلى إعادة حضورهم، فخلف الغلالة الشعرية تكشفت الأوضاع الاجتماعية المشينة لتلك الحقبة “إن عصر البطولة إذا نظرنا إليه من الناحية الاجتماعية؛ ليعتبر عصر حماقة وإجرام. إلا أنه إذا نظرنا إليه عاطفيا، يعدّ تجربة كبرى. إنه تجربة مثيرة؛ تجربة النفوذ بين تضاعيف الحاجز الذي طالما أعجز أسلاف الغزاة المتبربرين أجيالا؛ والانفلات إلى عالم يبدو لا حدّ له، يقدّم لهم إمكانيات تبدو لا حدود لها. على أن هذه الإمكانيات ما تلبث تستحيل إلى إجداب، خلا شيئا واحدا مجيدا. ومع ذلك فإن الإخفاق التام المثير الذي أصاب البرابرة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، يهيّئ- على النقيض- التوفيق لإبداع شعرائهم. ذلك لأنه في دنيا الفنون، يكون الفشل في الإبداع الفني، أبعث على الإبداع أكثر من النجاح.. وفي هذا الملكوت المسحور -ملكوت الشعر- يحقّق الغزاة المتبربرون -بالإنابة- المجد الذي عجزوا عن بلوغه في حياتهم الواقعية. وهكذا يتجه التاريخ وجهة عاطفية يكتب لها الخلود. وإذا كان شعر البطولة يخلب لباب المعجبين المُحدثين، فهو يصرفهم عن رؤية الحقيقة، وهي أنه كان فاصلا كئيبا من فناء حضارة ومولد أخرى لتخلفها”.
بعث هوميروس من تحت الركام صورا متخيلة للأبطال العظام، وتخيل مسرح أفعالهم بجوار طروادة، وفي البحر، ليطلق العنان لخيال كبته الواقع فاطلقه الشعر إلى مداه الأوسع. لكن الخيال الذي به رسم للأبطال صورهم العظيمة تكاد تعمي الأبصار لم يخف عن “توينبي” حقيقة ذلك العصر، لأنه “في وسع البيّنة الباطنية نسف الأسطورة البطولية، فإذا أطفأنا جميع الأنوار المصطنعة وعلى ضوء النهار وحده، ورحنا نفحص ذلك الاستعلاء الشعري للقتال الثائر والآدب الصاخبة؛ تبدّى لنا مثوى الأبطال وقد عاشوا حياة شريرة، وماتوا الميتة الشنيعة التي ماتها جنس البرونز، وقد تبدّى لنا مثوى الأبطال وقد استحال إلى حيّ قذر. إن المحاربين الجديرين بالقبول في مثوى الأبطال؛ ليسوا إلا أشباه الشياطين الذين صبّ عليهم هؤلاء المحاربون جرأتهم. وإن المتبربرين إذ يتلاشون من على وجه البسيطة، قد خلّصوا العالم من مجمع الشياطين؛ وحين هلكوا جميعا وحطّم بعضهم بعضا وفنوا، قدموا للعالم صنيعا قدّره كل إنسان ما عداهم”.
لطالما سكن البشر هاجس الإعجاب بالبطولات حتى لو تحققت على بحر من الدماء، فالفعل الشعري عند هوميروس غمر الضحايا، ومحا وجودهم، ومجّد القتلة باعتبارهم أبطالا ظافرين. عصر الأبطال هو نفسه عصر البرونز الذي وصفه “هزيود” في كتابه الشعري “الأعمال والأيام”. على أن “توينبي” عالج دور الشاعر الأعمى في المجتمع المحارب، دون أن يأتي على ذكر هوميروس، لكنه استوحى دوره في تمثيل ذلك المجتمع، ففي سياق تبادل الأفراد لأدوارهم ينبغي أن يكون فيه لكل امرئ دوره في القتال، يمكن للأعمى أن يتناول آلة يعزف بها، وينشد على إيقاعها أشعاره، بدل أن يحمل رمحا أو سيفا، وبذلك يستطيع “استخدام عقله في قرض أشعاره عن أعمال البطولة التي يعجز عن إتيانها؛ وإن كان يعلم بها بعد حدوثها.. وبذلك يصبح الشاعر الأعمى وسيلة الخلود التي يتوق إليها المحارب البربري”. وأختم في هذا السياق بقول “برنال” في كتابه” أثينا السوداء” حول دور المرويات الشعرية والسردية في توثيق الأحداث، فهي عنده تؤدي “وظيفة تاريخية، طالما أنها تبدو كرمز أو تمثّل وتعبّر عن تطورات تاريخية”.